الخميس، أكتوبر 05، 2006

كلام في قلبي 4
الفراق صعب

كنت أتابع عملي في مكتبي و وسط عمالي كعادتي كل يوم ، و بعد إنتهائي من وضع بعض الأوراق بداخل الملفات و رفعت رأسي ناظرة للخارج من خلال النافذة الزجاجية في حركة تلقائية فلمحتها قادمة من بعيد ، تهرول تجاهي كمن يستغيث و يطلب النجدة ، إنقبض قلبي لهذا المشهد فقد كنا سويا منذ ما يقرب من ساعة تقريبا و كانت على ما يرام . لم تعطني فرصة للتساؤل عما حدث ، وجدتها و بدون مقدمات تلقي رأسها في صدري و هي تبكي بحرقة و في حالة إنهيار ، لم أملك سوى أن أحتضنها محاولة تهدئتها فوجدتها تلملم حروف كلماتها بصعوبة و هي تقول " ماتت يا هند ماتت .... خلاص مش حاشوفها تاني " ، " الله يرحمها بس مين دي ؟" سـ..تــ...ى ، مااااتت " . كنت أعلم أنها بالمستشفى مريضة " معلش يا حبيبتي الله يرحمها ... كده أرحم ليها من عذاب المرض و بعدين المفروض إنك متوقعة ده " " أيوة يا هند بس الفراق صعب " ......... الفرااااااااااق ... لم أجد كلمات بعد كلمتها مادت بي الأرض و لم أستطع السيطرة على مشاعري و تهاوى قلبي ليسقط في بئر سحيق .. يسقط و هو يرتج ارتجاجات عنيفة تأخذ روحي معها و يتخبط في جدران صدري و تنهمر دموعي معه دون إرادة مني..... " آآآآآآه حرام عليكي يا هبة ليه كده بس ؟ ما أنا كنت ساكتة و كاتمة في قلبي " قلتها في سري و أنا أرى أمامي لحظة وفاة جدتي و كأنها تحدث الآن و أيضا إنسانة أخرى عزيزة جدا على قلبي ... كلتاهما ودعا الدنيا و ودعاني معها ... بقيت وحدي دونهن أعاني تبعات الفراق الصعب و أنتظر عودتهن في أي وقت معتقدة بتفكير طفولي أنهن في مهمة أو سفر و سيعدن لأجلي حتى لا أبقى دونهن كثيرا .... كان يجب أن أظل صلبة لحظة الفراق حتى أقوم بواجبي و أظل حتى آخر لحظة بجانبهن كما كانتا بجانبي كل اللحظات و كل الأوقات ... لم أتخيل أن أوضع في هذا الموقف أبداً و لكنه حدث رغماً عني .. حجبهن التراب عن عيني و أحضاني و أنا عاجزة أن أمنع ذلك أو أنفض عنهن التراب ... أنتظر في كل لحظة أن يمزقن ذلك الكفن الذي يخفي وجوههن الطيبة و اياديهن الحنونة و أحضانهم الدافئة و قلوبهن المحبة المعطاءة دائماً و بعدن لأجلي و لكن هذا لم يحدث تركتهن ينزلن في قبورهن مغلوبة على أمري ظناً مني أنهن سيخرجن بعد أداء المهمة الرسمية يحاسبن على أعمالهن و يخرجن ... كلتاهما تعلم أني أحتاجها كثيرا ، أحتاج أن تشاركني يومياتي و تصرفاتي و حكاياتي و أتبارك بدعوتها كل يوم و أملأ قلبي و روحي من بحر الحب و الحنان و العطاء الوافر فذلك هو الزاد و الزواد في تلك الحياة الجافة ... تلك هي المشاعر الصادقة النقية بلا مصالح ... مشاعر تنحني لها كل صباح و تأخذ بركتها من قبلة على اليد و حضن دافيء و دعوة صادقة من القلب أغلى من كنوز الدنيا ... مشاعر بدون مقابل .. تشعر بالحرص و الإهتمام في كل تصرف ... التقويم الحنون اللين الذي يجعلك تفعل أي شيء لترضي هذا القلب الطيب و لا تخسر دعواته ... تقويم لا يجرح و لا يكسر بل يجعلك أقوي ... أطيافهن تجوب المنزل و كل شيء من حولي ... أجدهن في كل ركن و أشم عطرهن الطيب في أشيائي .. ترن كلماتهن المحببة و ندائهن لإسمي في أذني كلما إشتقت إليهن .. دعواتهن تسبق خطواتي ، أشعر بالأيدي الحنونة تربت على كتفي و تحتويني في أحضانها كلما شعرت بالتعب أو أصابني حزن ... حتى الآن لازلت أتجنب بعض الأشياء و أحيانا أذهب إليها طواعية مني متلمسة عبق حنيني و لحظة من زمن قضيته .. أستمد قوتي و أجدد عزيمتي من كلمات مباركة و نصائح غالية ... أتحاشى أن أدير رقمها الغالي على قرص الهاتف و لا تجيبني بصوتها المحب المرحب " أهلاً أهلاً حبيبة ماما ... عملتي إيه إنهاردة و قابلتي مين ؟ " أو أن أدخل منزلها فأرها في كل ركن منه و أبحث عنها فلا أجدها ، أطرق الباب بإلحاح طفولي و أعرف أنها ستفتح بإبتسامة في صفاء النهار و أرتمي في حضنها المتعب فتحتويني كإحتواء البحر لكائناته فذلك هو مكانها الطبيعي ... حضن بإتساع الدنيا و ما فيها... أخشى أن يغير أحد مكان الأشياء التي وضعتها بيدها و غير نظامها و أزال عبقها من أركان المنزل...أما وجه جدتي الصبوح المشرق بنفس راضية قانعة لاأمل و لا سند لها سوى الله ... دائمة الذكر و العمل و الدعوات للجميع حتى و إن كان سائق التاكسي الذي يقلها لأي مكان .. أراها في كل سيدة تسير بظهر شبه محني من ضغوط السن و الزمان ، تسير خطوات قليلة و تستند على سيارة أو عمود نور لتفرد ظهرها في عناد و فسحة ثم تستكمل مشوارها ... جدتي التي كانت تتخذ مني عكازا و سندا لها و ونساً .. صرت لا أتمالك نفسي كلما رأيت عجوزا تشبهها حتى إني إحتضنت و قبلت يد سيدات لم أعرفهن قبلاً و طلبت منهن دعوة لي حتى لا أشعر أن دعواتها إنقطعت عني و كن يستجبن لي في حنان بالغ و دهشة واضحة و شفقة على دموعي التي أدرايها مع أنها تخرج رغماً عني ...جدتي و صديقة والدتي لم تكن العلاقة بيني و بينهن رسمية أو بضوابط و لكن كان كلا منا قطعة من الآخر لا يستقر حتى يطمئن عليه و تكتمل روحه عندما يكون نصفه الآخر في أحسن حال ، يشعر أنه سليم معافى بمجرد رؤيته حتى و إن كان عليلاً ... لم أستطع إرجاعهن ، فقط إحتفظت بذكريات دافئة و حب مكنون في قلبي يحتويني كلما قست الدنيا ... السيدة الأخري لم تكن شقيقة أمي بالولادة و لكنها كانت شقيقتها بالحياة و الإنسانية .. قست عليها الدنيا فتحملت قسوتها و لكنها لم تتحمل قسوة أبنائها فلذات كبدها حين إحتاجتهم و تخلوا عنها .. كنت أشعر بألمها و أتعاطف معها و أعترف أنني مع الوقت كنت أنانية و سعدت بذلك لأنني شعرت بأنهم لا يستحقون رضاها و لا حبها و لا دعواتها لهم فكل ذلك نصيبي وحدي .. طبعا لم أكن أتحمل رؤية دموعها و لوعتها من تصرف أولادها و فراقهم و صدمتها فيهم و لكن ما فعلوه بها كان سبباً لأن ينعم الكثيرين بذلك الحنان و العطف و الرضا و الإبتسامة الجميلة وجدتني أختارها أماً لي بكامل إرادتي بالإضافة لأمي الجميلة المثقفة المعطاءة التي لا يأخذ مكانها أحد مهما بلغت غلاوته في قلبي .... سيدتان تعلمت منهنما الكثير و بعد رحيلهن عن عالمنا مادت بي الأرض و إختل توازني و شعرت أن العالم كله إنكمش ليصبح في حجم رأس الدبوس و المطلوب مني أن أقف صامدة متزنة عليه ... لم يبق لي سوى أمي أطال الله عمرها فلا شيء الآن يبقيني متماسكة سواها .. أسند ظهري عليها و أتكيء ، أحتمي بها ، فلا أخت لدي و لا صديقات إلا قلة تأخذهن مشاغل الحياة فلا تستمر الصداقة أو تبقى و لكن موسمية ... لحظات من الشجن و الحنين و الوفاء لسيدات إمتلكن قلبي لأنهن يستحققن ذلك .. " ثلاث أمهات " حب صادق ، نصائح خالصة دون مصالح ، تضحية ، أمومة نادرا ما نجدها و ربما كان من حسن حظي أن يتواجد هذا الثلاثي المتفرد في حياتي .. لا أملك سوى الإنحناء إحتراما و تبجيلا لهذه النماذج التي لو تكررت في بلدنا لتغير حال أجيال و مجتمع بأكمله ... لصرنا مجتمع يشعر بقيمة العطاء و التضحية و الوفاء و إفناء النفس في سعادة الآخرين
" الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيبَ الأعراقِ "
و لنا كلام آخر أيضا من قلبي لقلوبكم قبل عقولكم

مع حبــي،،،،،
هــنــــــــــــــــــــــد ،،

ليست هناك تعليقات: